ما بين النظام والممارسة تقع الحوادث

 


ما بين النظام والممارسة... تقع الحوادث

في عالم السلامة المهنية، تُعد الأنظمة والسياسات حجر الأساس لأي بيئة عمل آمنة. لا يكاد يخلو موقع عمل من "دليل السلامة"، ولا يوجد مصنع محترم إلا وقد علّق لوحات إرشادية في كل زاوية. لكن، وبين وجود النظام على الورق وتطبيقه الفعلي على أرض الواقع، مساحة رمادية... تُسجل فيها معظم الحوادث.

العديد من المؤسسات تفخر بامتلاكها لنظام إدارة السلامة والصحة المهنية، قد يكون مستندًا إلى معايير عالمية مثل ISO 45001 أو مدعومًا بإجراءات داخلية مفصّلة. تُعقد الدورات، وتُملأ النماذج، وتُوضع التواقيع. لكن عند أول اختبار حقيقي — حريق، سقوط، أو حتى مجرد تسرب مادة كيميائية — يتبين أن كل ذلك لم يكن سوى ممارسة شكلية، تفتقد إلى الروح الحقيقية للتطبيق.

النظام الفعّال لا يُقاس بالحبر، بل بالأثر

أحد تقارير NEBOSH أشار بوضوح إلى أن الفرق بين نظام سلامة فعّال وآخر موجود فقط على الورق، هو الفرق بين بيئة عمل آمنة وحادث قاتل. هذه ليست مبالغة، بل حقيقة يمكن ملاحظتها في الواقع العملي.

خلال زياراتي الميدانية لبعض مواقع العمل، لاحظت مفارقات مؤلمة:

  • الإجراءات مكتوبة بلغة رسمية معقدة، لكنها غير مفهومة للعامل البسيط. الموظف يقرأ الإجراء، ولا يعرف ما هو المطلوب فعلاً. نُدرب الناس على كيفية التصرف أثناء الطوارئ، لكننا لا نتحقق إن كانوا فهموا ما قلناه، أم فقط تظاهروا بالاستماع.

  • التدريب يُنفذ بشكل روتيني، لكن دون تقييم حقيقي للمخرجات. هل تغيّر سلوك العامل بعد التدريب؟ هل يعرف الآن كيف يتصرف عند حدوث تسرب؟ أم أنه حضر فقط ليوقع ورقة "أثبتت" أنه تلقى تدريبًا؟

  • معدات الوقاية الشخصية متوفرة، لكن استخدامها لا يُفرض. نوزع الخوذات والنظارات والقفازات، لكن نغضّ الطرف عندما لا تُستخدم. والنتيجة؟ حادث بسيط كان يمكن تفاديه لو فُرض النظام بصرامة.

الفجوة بين "الورق" و"الممارسة"

وجود النظام لا يعني التزامًا تلقائيًا. التطبيق يحتاج إلى:

  1. ثقافة مؤسسية واعية: حيث يُنظر للسلامة كقيمة، لا كمتطلب إداري.

  2. قيادة تُعزز القدوة: فالمدير الذي يلتزم بالخوذة هو الذي يجعل العامل يحترمها.

  3. مراجعة دورية شاملة: لا تكفي الاجتماعات الأسبوعية الشكلية، بل نحتاج إلى تقييم واقعي للسلوك، الأداء، والتقيد.

  4. رصد ومساءلة: لا يجب أن يمر أي خرق للسلامة مرور الكرام. المساءلة تصنع الفارق.

الوعي الحقيقي... هو حجر الزاوية

في النهاية، السلامة ليست في الأوراق، بل في الأذهان والسلوك. أن يعرف العامل أن استخدامه لمعدات الوقاية ليس خيارًا بل ضرورة، وأن يفهم لماذا الإجراء موجود، هنا فقط نبدأ ببناء بيئة آمنة.

أن نُوقّع نموذج تدريب... لا يعني أننا دربنا.
أن نُنجز تدقيقًا داخليًا... لا يعني أننا رصدنا الواقع الحقيقي.
أن نكتب خطة طوارئ... لا يعني أن الفريق مستعد.

في الختام 

ما بين النظام والممارسة، تقع الحوادث. وما بين الفهم الحقيقي والتوقيع الشكلي، نفقد الأرواح والموارد. السلامة ليست وثيقة نُراجعها في المكتب، بل سلوك نعيشه يوميًا في الميدان.

لذلك، دعونا لا نسأل فقط: "هل لدينا نظام سلامة؟"
بل لنسأل: هل نُطبق هذا النظام؟ هل نُراقب فعاليته؟ هل نُحاسب من يتجاهله؟

لأن الإجابة على هذه الأسئلة... قد تكون الفرق بين الحياة والموت.

تعليقات