السلامة بين الماضي والحاضر


 

السلامة بين الماضي والحاضر: من أين بدأنا وإلى أين وصلنا؟

في كل مهنة وكل موقع عمل، كانت السلامة دائمًا محط اهتمام بدرجات متفاوتة. لكن الفرق بين الماضي والحاضر في هذا المجال ليس فرقًا بسيطًا، بل هو تحوّل جذري في المفاهيم والممارسات والثقافة المؤسسية.

الفصل الأول: ماضٍ يُعتمد فيه على الحظ والخبرة

في سبعينيات القرن الماضي، لم تكن معايير السلامة كما نعرفها اليوم. كانت الحوادث جزءًا "متوقعًا" من بيئة العمل، لا استثناءً. اعتمدت الشركات بشكل أساسي على الخبرة الشخصية للعمال، لا على وجود نظام وقائي حقيقي.

  • كانت الخوذة أداة اختيارية في كثير من مواقع البناء، والعديد من العمال لم يكونوا يرتدونها إلا بعد وقوع الحوادث.

  • في قطاع التعدين، كان يتم استخدام طيور الكناري كوسيلة بدائية لاكتشاف وجود غازات سامة. فعندما تسقط الطيور ميتة، يعرف العمال أن هناك خطرًا.

  • العمل على المرتفعات كان من أكثر الأنشطة خطرًا، ولم يكن هناك أنظمة حماية جماعية أو شخصية كالمعتمدة اليوم.

  • لم تكن هناك تدريبات منظمة أو مستمرة، وكان المفهوم السائد هو أن العامل الجيد هو الذي "يعرف كيف يحمي نفسه بنفسه".

  • لم تكن هناك قوانين صارمة تُفرض على أصحاب العمل، وبالتالي كانت السلامة خيارًا لا التزامًا.

الفصل الثاني: نقطة التحول نحو الاحتراف

مع تزايد الحوادث وتراكم الأبحاث والإحصاءات حول الإصابات المهنية، بدأ العالم يدرك أن الاعتماد على الحظ والخبرة لم يعد مقبولًا.

  • ظهرت منظمات وهيئات عالمية مثل:

    • NEBOSH (المجلس الوطني البريطاني لسلامة الصحة المهنية)

    • OSHA (إدارة السلامة والصحة المهنية الأمريكية)

    • ISO 45001 (نظام إدارة السلامة والصحة المهنية)

  • بدأت هذه الأنظمة تضع أطرًا واضحة للمسؤوليات، والتدريب، والإبلاغ عن الحوادث، وتحليل المخاطر، وتقييم الأداء.

  • أصبح التدريب شرطًا أساسيًا قبل دخول أي موقع عمل.

  • بدأت معدات الوقاية الشخصية تتحول من خيار إلى إلزام قانوني، وترافقها حملات توعوية مستمرة.

  • تم تطوير أنظمة ذكية لكشف الغازات السامة، والحرائق، ومستويات الإشعاع، وغيرها من المخاطر الخفية.

الفصل الثالث: عصر ثقافة السلامة

في الوقت الحاضر، لم يعد يُنظر إلى السلامة فقط كواجب قانوني، بل كجزء من ثقافة مؤسسية متكاملة:

  • الوعي في أعلى مستوياته بين العمال. لم يعد العامل يخجل من رفض تنفيذ عمل خطير دون إجراءات وقاية.

  • المسؤولية المشتركة باتت مفهومة أكثر. فكل شخص في المنشأة مسؤول عن السلامة، من العامل إلى المدير العام.

  • التقنيات دخلت بقوة: الكاميرات، أجهزة الاستشعار، أنظمة الإنذار المبكر، والتطبيقات الذكية كلها في خدمة السلامة.

  • ثقافة الإبلاغ عن المخاطر والحوادث بدون خوف أصبحت مشجعة.

  • التحقيق في الحوادث تطور ليصبح تحليلًا علميًا هدفه التعلم، لا اللوم.

  • مؤشرات الأداء في السلامة (KPIs) أصبحت تُقاس وتُناقش دوريًا.

مقارنة جوهرية: الماضي × الحاضر

الجانبالماضيالحاضر
استخدام الخوذةغير إلزامي في معظم المواقعإلزامي قانونًا ومراقب
كشف الغازاتوسائل بدائية (مثل طيور الكناري)أجهزة رقمية ذكية متصلة بأنظمة إنذار
العمل على المرتفعاتبلا معايير واضحةمقنن بمعايير عالمية وتجهيزات حماية شخصية
تدريب السلامةغير منتظم وقد يكون شكليًاممنهج ومتخصص ويُقيّم باستمرار
ثقافة السلامةشبه معدومةمتجذرة في سلوك المؤسسات والعاملين
التعامل مع الحوادثغالبًا عبر لوم الضحيةتحليل الأسباب لمنع التكرار
دور القوانينضعيف أو غير موجودقوي ومدعوم بجهات رقابية وتشريعية

هل يكفي تطوير القوانين؟

رغم هذا التقدم الهائل في القوانين والتجهيزات، لا يزال السؤال قائمًا:

"هل يكفي وجود نظام؟ أم أن الأهم هو غرس ثقافة السلامة؟"

القانون يُجبر، لكن الثقافة تُقنع.

  • قد نمتلك أحدث الخوذ، لكن إن لم يقتنع العامل بأهميتها، فلن يلبسها.

  • قد نُدرّب الموظفين كل 6 أشهر، لكن إن لم تكن الرسالة مفهومة، لن يتغيّر شيء.

  • قد نُعلّق لوحات الإرشاد، لكن إن لم تُترجم إلى سلوك يومي، تبقى مجرد ديكور.

كيف نُرسخ الثقافة؟

  • القدوة من الإدارة العليا.

  • مكافأة السلوك الآمن، لا التغاضي عنه.

  • التحدث بلغة العامل، لا بلغة المدير.

  • المشاركة الجماعية في خطط السلامة.

  • التدريب التفاعلي بدلًا من التلقيني.

الخلاصة: رحلة لم تنته بعد

نعم، بدأنا من الصفر تقريبًا. من خوذة غير موجودة، إلى نظام إدارة متكامل. من عمال لا يعرفون حقوقهم، إلى بيئات عمل فيها كل فرد مراقب ومدرب ومشارك.

لكن التحدي الحقيقي ليس في كتابة الأنظمة، بل في عيشها يوميًا. في تحويل السلامة من بند في دليل الموظف إلى سلوكٍ طبيعي يشبه ارتداء الحزام داخل السيارة.

السلامة اليوم ليست خيارًا... إنها واجب. لكنها أيضًا ليست عبئًا... إنها استثمار في الحياة، والوقت، والإنتاج.

فلنُكمل الرحلة معًا...

لنصنع بيئة لا تُبنى فقط على الحديد والإسمنت، بل على ثقافة تحترم الحياة وتمنح كل عامل 

تعليقات