الواقع العربي في تطبيق أنظمة السلامة… بين اللوائح والتطبيق
في عالم الصناعة، لا يمكننا تجاهل أنظمة السلامة المهنية تشكل أحد الأعمدة الرئيسية لاستدامة الأعمال وجودة المنتجات ففي العديد من الدول العربية، رغم وجود لوائح واضحة ومحدثة تتماشى مع المعايير الدولية، فإن واقع التطبيق لا يعكس دائماً هذه الطموحات، هنا تكمن الأزمة: ما بين اللوائح النظرية والتطبيق الميداني، تتشكل فجوة تؤثر بشكل مباشر على سلامة العاملين، كفاءة العمليات، وسمعة المؤسسات.
تُظهر التجارب الميدانية أن الأنظمة الرسمية، مهما كانت متقدمة، تبقى مجرد أوراق إذا لم تُدمج ضمن ثقافة مؤسسية حقيقية فالثقافة التي تدعم السلامة لا تنشأ فقط من فرض القوانين، بل من تبنيها كقيمة جوهرية في كل قرار، بدايةً من مستوى الإدارة العليا حتى آخر موظف في موقع العمل.
يواجه الواقع العربي تحديات واضحة في هذا المجال، تتمثل في غياب الالتزام الحقيقي، وتقديم السلامة كمتطلب شكلي بدلاً من هدف استراتيجي وينعكس هذا الأمر على الأداء الاقتصادي والصناعي؛ حيث أن الحوادث والإصابات لا تكلف فقط الأرواح، بل تستهلك الموارد، وتعطل خطوط الإنتاج، وتضر بجودة المنتج النهائي.
يمكن أن تُعزى هذه الفجوة إلى عدة عوامل جوهرية، أبرزها غياب الوعي الحقيقي لدى القيادات العليا التي غالباً ما تُركز على النتائج الإنتاجية على حساب سلامة الأفراد، فهذا التوجه يعكس افتقار المؤسسات إلى رؤية شاملة ترى في السلامة استثماراً وليس تكلفة، وفي حماية العاملين ركيزة للنمو المستدام.
علاوة على ذلك، كثيراً ما تقتصر جهود التدريب على الجانب النظري، لتصبح مجرد إجراءات شكلية تهدف إلى اجتياز التفتيشات الرسمية، دون تطوير مهارات تطبيقية تؤثر في سلوكيات العاملين اليومية وبذلك، يبقى العامل عرضة لمخاطر متزايدة رغم ما يتلقاه من تعليمات.
إضافة إلى ذلك، تواجه المؤسسات نقصاً في أنظمة قياس فعالة، حيث تندر الأدوات والمؤشرات التي تمكن من تقييم الأداء الحقيقي لأنظمة السلامة، كما أن التقارير الدورية غالباً ما تفتقر إلى التحليل العميق الذي يكشف جذور المشكلات ويقترح الحلول المستدامة.
في النهاية، فإن ضعف الرقابة والتفتيش، خصوصاً في بعض الدول التي تفتقر إلى كوادر متخصصة أو تستند إلى رقابة شكلية، يعمق هذه الفجوة، ويترك الأبواب مفتوحة لوقوع الحوادث التي كان بالإمكان تجنبها.
إن تجربة الدول المتقدمة في هذا المجال تقدم دروساً واضحة فهناك، لا تُعتبر السلامة مجرد متطلب قانوني بل ثقافة متجذرة في بنية العمل تعكس خطط السلامة الشاملة مشاركة حقيقية للعاملين، تُقيّم المخاطر بانتظام، وتُطبق برامج تدريبية تفاعلية، تُحفز على تبني السلوكيات الآمنة، وتُقاس النتائج بأدوات موضوعية.
لذا، فإن التحدي الأكبر الذي يواجه الصناعات العربية يكمن في الانتقال من تطبيق اللوائح كإجراء شكلي إلى بناء ثقافة مؤسسية تتبنى السلامة كأساس في كل جانب من جوانب العمل. لا يمكن أن تتحقق السلامة المهنية بشكل فعّال دون إرادة مؤسسية واضحة، استثمار حقيقي، وقيادة حاسمة، تقنع أن حماية الإنسان هي الاستثمار الأمثل لمستقبل الصناعة.
في هذا السياق، تأتي التوصيات كخطوات عملية ضرورية: إعادة تقييم دور الإدارة العليا في تبني السلامة، تطوير برامج تدريبية تطبيقية، اعتماد مؤشرات أداء دقيقة، وتعزيز أنظمة الرقابة بوسائل حديثة تضمن الجدية والشفافية.
إن نجاح هذه الخطوات لن يحمي العمال فقط، بل سيُعزز من جودة المنتج، يقلل من الخسائر، ويرتقي بالسمعة الصناعية في الأسواق المحلية والعالمية.